مخلوقة ضعيفة، تغلب عليها العاطفة الحانية، والرقة الهاتنة، لها من الجهود والفضائل ما قد يتجاهله ذوو الترف، ممن لهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، ولهم قلوب لا يفقهون بها، هي جندية حيث لا جند، وهي حارسة حيث لا حرس، لها من قوة الجذب ومَلَكة الاستعطاف ما تأخذ به لبَّ الصبي والشرخِ كلَّه، وتملك نياط العاطفة دقّها وجلِّها، وتحل منه محل العضو من الجسد، بطنها له وعاء، وثديها له سِقاء، وحجرها له حِواء، إنه ليملك فيها حق الرحمة والحنان، لكمالها ونضجها، وهي أضعف خلق الله إنساناً، إنها مخلوقة تسمى الأم، وما أدراكم ما الأم؟!
لماذا الحديث عن الأم؟
إننا حينما نتحدث عن الأم فإننا نتحدث عنها على أنها قرينةُ الأب، لها شأن في المجتمع المكوَّن من البيوتات، والبيوتات المكونة من الأسر، والأسر المكونة منها ومن زوجها وأولادها، هي نصف البشرية، ويخرج من بين ترائبها نصف آخر، فكأنها بذلك أمةٌ بتمامها، بل هي تلد الأمة الكاملة، إضافة إلى ما أولاه الإسلام من رعاية لحق الأم، ووضع مكانتها موضع الاعتبار، فلها مقام في الحضانة، ولها مقام في الرضاع، وقولوا مثل ذلك في النفقة والبرِّ وكذا الإرث.
فالحديث عن الأم إذاً يحتل حيزاً كبيراً من تفكير الناس، فكان لزاماً على كل من يهيئ نفسه لخوض مثل هذا الطرح أن يكون فكره مشغولاً بها، يفرح لاستقامة أمرها، ويأسى لعوجه، ويتضرس جاهداً في الأطروحات المتسللة لواذاً؛ ليميز الخبيث من الطيب، فلا هو يسمع للمتشائمين القانطين، ولا هو في الوقت نفسه يلهث وراء المتهورين.
والمرتكز الجامع في هذه القضية، والذي سيكون ضحية التضارب والمآرب، هي أمي وأمك وأم خالد وزيد، وحينئذ يجني الأولاد على أمهاتهم، ويقطعون أصلاً وأُسًّا قرره رسول الله صل الله عليه وسلم لرجل حين جاء يسأله: { من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك } [خرجاه في الصحيحين]. وسلام الله على نبيه عيسى حين قال: وَبَراً بِوَالِدَتِي وَلَم يَجعَلني جَباراً شَقِياً [مريم:32].
ماذا يحدث
لو غاب دور الأم؟!
إن الارتفاع بشأن الأم في أوساط الناس وفق الحدود
والمعالم التي حددها الشارع الحكيم لهو من دواعي رفعة البيت المسلم، كما
أن المحاولات الخبيثة في خلخلة وظيفتها التي فطرها الله عليها من حيث تشعر
هي أو لا تشعر، سببٌ ولا شك في فساد الاجتماع، وضياع الأجناس، وانثلام
العروة، فأزاحت الأم عن نفسها مسئولية النسل ورعايته، فأصبحت لنفسها لا
لرعيتها، ومن ثم قد تُسائل هي نفسها عن السبب، وما السبب إلا ما بيَّناه آنفاً،
ولعمرُ الله كم قد تحقر الأم نفسها، أو يغيب عن وعيها مكانتها وسلطانها،
ولو رفعت ببصرها قليلاً في ديوان من دواوين سنة المصطفى صل الله عليه وسلملوجدت قول
النبي صل الله عليه وسلم: } والمرأة
راعية على أهل بيت زوجها وولده
{رواه البخاري]، ومعلوم أن الرعاية لا توكل إلا لذي
قدرة وسلطان على رعيته، ومن هنا عُلم أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
أماه … لا
تنخدعي !
لقد انقاد كثير من الأمهات وراء صيحات أهل الكفر،
فأُعجبت ببريق ما عندهم، وظهر النَّهم عندهن، حتى إنك لتحسه من إحداهن،
فتراها كلما تقدمت في السن والإنجاب ازدادت في التشبب، ولا تزال تبتدئ
من حيث انتهى أهل الكفر أنفسهم. إذاً الأم هناك تعيش تعيسة مُهَانة، لا
أمل لها في ولد ولا بنت، ولربما لم تشعر بقيمة الأمومة والبنوة إلا بكلب
تقتنيه، أو سِنَّور يحل في قلبها محل ابن آدم، وذلك كله ليس بمانع هذا
الحيوان من أن يكون يوماً ما وريثها الوحيد دون أولادها، وأولادها في
غفلة سادرين، ينتظرون خبر وفاتها بفارغ الصبر، لينعموا بما تخلفه من تركة
أو عقار، وإن كانت الأم فقيرة الحال ففي دور العجزة والرعاية بالمسنين
متسع لها ولمثيلاتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق